لم أنم. حين رأيت ذاك الرجل, لم أنم. ظللت أفكر فيه طوال اليوم, وطوال الليل, ولما غلبني التعب وغفوت, حلمت به وفزعت مرعوبة.
كانت أول مرةٍ أرى فيها شخصًا يسير برجلٍ واحدة في شوارع لندن, كيف ينام الفقير على الرصيف دون مأوى؟ أذكر انبهاري أنا ذات الثمان سنوات وتشبثي بملابس أمي كلما مررنا قرب أحدهم; ملابسهم الرّثة, ملامح وجوههم المغطاة بالقذارة, تصرفاتهم غير المتوقعة تخيفني جدًا.
عقلي لا يكف عن التفكير.. ما مصير هؤلاء؟ ما هدفهم بالحياة؟ كيف يعيشون؟ أين أمهاتهم؟ ماذا يعملون؟ ولماذا غادرت عن ذاك الرّجل رجله؟ كثيرًا ما أصنع السيناريوهات في رأسي, وحتى أفهمها أحتاج أن ألبسها. وأتخيّل نفسي محل هؤلاء الذين أفكر فيهم. وماذا لو؟
كيف سأذهب للمدرسة ورجلي أو يدي ليست معي؟ كيف سأركض؟ كيف سأمسك؟ كيف سأتحرك بالحياة؟ كيف سيتعامل العالم معي؟ وما سيقول الأصدقاء عني؟
ناقصة؟ معيوبة؟ مسكينة؟ سيضحكون وسيسخرون كثيرًا. يعرفون أننا لا نختار, وإنما نضطر في أغلب الأحيان على التخلي عمّا يكملنا وتقبل بذلك نواقصنا. كنت أتصوّر أن الإنسان لو تصيبه رصاصة, يموت فورًا; لا تهم الطلقة أو مكانها. إما أن نعيش أو أن نموت. ولم أعرف بأن الله يمنحنا فرصًا عديدة للحياة, وأنه اختيارنا نحن بانتهازها.
يحتمي هؤلاء المشردون بصناديقهم الكرتونية من المطر. أراقب حالهم.. وكلما وضعت بعضًا من الخردة التي آخذها من أبي للفقراء, أدعي أن تكون الحياة منصفةً معي. هذا هو السفّر, يوجعنا بشق جفوننا لكنه يوّسع رؤانا لتتضح.
حين تتضارب قطرات المطر عند النافذة, ويخرج الرعد من فم السماء صارخًا في الليل, لا أخاف لأن النوافذ مغلقة, وأنها لو فتحت فسيغلقها أبي. أماني ليس بأن يكون لي بيت, بل بأن تكون لي عائلة أعيش معها فيه. وأنا أكبر كبرت مخاوفي.. صرت أدرك بأن الحياة أكبر مني, ومن أبي وأن ما في هذا العالم يمكن أن يوجعنا معًا.
أخاف أن أضيع..
أخاف أن لا أصل..
أخاف أن لا يجدني أحد..
أخاف من الإنتظار وصوت دقات الساعة..
أخاف أن ينفد الصبر..
أخاف أن يغدو الحلم سرابًا..
أخاف أن يضعف إيماني أمام مصيبة..
أخاف من الفقد..
أخاف أن أنكسر ويعصى الجمع..
أخاف أن أعجز عن المساعدة..
أخاف أن أعرفك أكثر.. أخاف أن لا أعرفك أبدًا..
أخاف على نفسي.. أخاف من نفسي, من تفكيري, من صمتي..
أخاف من الخوف نفسه بأن يغلبني!
في السيارة مع أبي, لا أنتبه للشارع, ولا أهتم للطريق, ولا أسأل أين سنذهب, أو متى سنصل.. لأنني معه بأمان. حضن أمي, وصدر أبي يكفيان لأعيش برجلٍ أو دون رجل. وأنا برغم الخوف كله, عندي دافعٌ للحياة; بأن أجرب وأعيش.
تتصل بي صديقة.. تشكو, تبكي ولا تدري سبب بكائها. تتصل أخرى, تبكي الضغط الذي عليها. تتكلم أمي, تحكي عمّا يدور في هذا العالم. الأرض التي هي بيتنا الكبير, لا نعيش فيها بقلبٍ واحد. ما عدنا نأمن فيها على أرواحنا. الجرائم تجري في كل لحظة, والإنسانية تُقتّل بيد الإنسان نفسه.. كل ذلك يحزنني ويخيفني إلى حد البكاء معهم: ما عاد في أمان.. بس أكيد في أمل!
: )
6 comments:
If there is a wish, there is HOPE .. If there is hope, there is SUCCESS
amazing feelings .. Enjoyed yr words
Thanks for sharing them
ربي يحفظج ... و يحفظ لج أمانج
تسائلاتج ذكرتني بنفسي بمرحله عمريه قد تجاوزتها ...
سوف تمضي الأيام .. و تتجاوزين تلك التسائلات منتقله إلا تسائلات من نوع آخر ..
أسأل الله لك السلامه
آمين
ابن صديقتي وأسئلته عند توصيله للمدرسة: متى راح تاخذوني؟ منو راح ياخذني؟ لا تتأخرين .. ماما أبيج تكونين أول وحدة عند باب الهدة.
ولا أظننا نختلف كثيرًا عن هذا الطفل.
الله يديم لك أمانك
:)
رائعه .. تحيّاتي
أهلنا بكل ما يملكون يحاولون جعل العالم حولنا آمن لتربيتنا فيه
وعندما نكبر يطلقونا للعالم وهنا يأتي دورنا في البحث عن الامان لنا ولابنائنا وتبدأ توضح معاني الانسانية
العالم يصبح أصعب وأصعب
الانسانية تنتهك حولك
وتبدأ تضيق الدنيا
هنا يزيد حبك واحترامك وتقديرك لأهلك
صحيح انه "ما عاد في أمان.. بس أكيد في أمل"
انك انسانة مبدعة في الكتابة مثلما ابدعت في تجسيد الآخر وكتابتك تعكس مدي قوة شخصيتك وتشخيصها في عكس معاناة الاخرين خاصة وانك تمتلئين من حب الخير لبني البشر وتعيشين الان قصة الحرمان وتجسيد حروفك لهذه المواقف التي تشاهدينها وتحيلينها لابداع مجسد في هذه القصة
عموما مبروك لك هذا الابداع ومزيد من التواصل والكاتابة التي تعيننا في مطبات هذه الحياة .
هذه اول مرة امر علي كتاباتك ولكن بحق وحقيقة تملكين ما يجعلك من فرسان العربية في مجال الرواية وخاصة انك تكتبين في قضايا انسانية من الطراز الاول في زمن يهرب منه الكتاب نحو قضايا تزيد من معاناة الانسانية ولكنك تتفوقين في مجال قلما يسير فيه الناس الا هو الكتابة في مجال الانسنة والانسانية وتقبلي خالص مروري واستميحك عذرا ان لم اكن موفقا في عباراتي
ابوعزام
Post a Comment