أحمل كوب قهوتي بيدي ولا أشرب منه. أحتاج سكرًا نسيت أن أأخذه من المقهى. أنتظر أن تبرد القهوة قليلًا ريثما نصل إلى المنزل. لكن الطريق كان يمشي إلى محلٍ آخر.
"وين رايحيين؟"
"نشوف نتيجتج!"
"لا والله جد مو لازم!"
الـ"مو لازم" لم تكن لها فاعليتها فاضطررت للنزول معه. الدرجات معلقة, كل قسم في لوحة. أتظاهر في البحث عن المادة الوحيدة المتبقية, بينما أتمنى جوفًا أن لا أجدها.. أنا حقًا لا أريد أن أعرف نتيجتي أيما كانت!
"كاهي!"
أقترب, أقرأ اسمي حيث أشار اصبعه سريعًا قبل أن يلتفت, أقرأ النتيجة, أقرأ اسمي مرة ثانية.. أبحث في عينيه عن شيء ولا أجد ما هو أكثر خصوصية من الفشل!
---
في الغرفة, أقفلت النور واندعست تحت الغطاء. شعورٌ ما يحثني على الاختباء. أريد أن أنسى, أنسى كل شيء تحت الغطاء.. أنسى حتى نفسي التي غضبت عليها جدًا في تلك الليلة.
"قهوتج! ما شربتيها! وليش ظلمة؟"
صحيح, أنه كان في الود النسيان. لكن لا يمكنني أن أتظاهر به هكذا لأنه لا يجيء سريعًا ولا بهذه السهولة.
لم أبكِ لأنني مظلومة.. لكن دموعًا كثيرة هربت من عيني لأنني لا أعرف كيف أعتذر لأثنين أعطوني من عمرهم ومن جهدهم كل الحب وما استطعت أن أرد لهم غير خيبة قرأتها في وجه أبي الذي لا شعوريًا أخفض بصره قبلما يشيح وجهه بعيدًا عن النتيجة.
---
قرابة الثلاثون طالبة في فصلٍ لا يتسع لهذا العدد.. في الساعة الخامسة قبل نهاية الدوام.. الجو حار, والتكييف غالبًا معطّل.. ولا مزاج للوح الواقف أن يشرّح. مشكلة التعليم عندنا بأنهم يأتون بمن ليست لهم خبرة ويتوقعون منا أن نتعلم منهم بينما هم يتعلمون علينا. حين اقترحوا عليّ أن أراجع مدرس خصوصي رفضت الفكرة تمامًا. كنت أعاند: أنا لست غبيّة! ولما استصعبت الأمور رحت أسأل علّها تفيدني في شيء. وعندما اكتشفت الإعجاز في الحل, رمت الكراسة في وجهي!
أعرف مصيرها لو اشتكيتها عند أهلي.. وأعرف تجاهل الإدارة الأحمق عن أي شكوى ترفعها طالبة لأننا حسب نظرهم مجرد مراهقات يشتكين كل شيء ولا يحتملن أي شيء! كنت أشكوها إلى الله.. وأعرف أن لا أحدًا سينصرني غيره.
---
بعد الإختبار الثاني, وزعّت أوراق جماعية تسلّمت منها ما كانت تحمل اسمي. ولما استفسرت عنها تبيّن أنها ورقة تحويل تخصص. قالت بأن فتاة مثلي ليس مكانها هنا! لو كانت تدري بأن فتاة مثلي يمكنها ما تريد وآخر ما تحتاج هو موافقتها.
قولي أني لا أعجبك وسأتقبل.
قولي أنكِ لا تؤمنين بي وسأتقبل.
قولي بأنكِ ستترصدين لي وسأقبل التحدي.
لكن إياك من أن تملي عليّ مستقبلي وما سأكون فيه فليس لأحدٍ هذه الصلاحية!
---
لقد كان لابد بعد السقوط من الوقوف. وقفت في الفصل الثاني بعدما تقلص عدد طالبات التخصص العلمي في الدفعة كلها إلى قرابة النصف ولم أكن من بينهن. لم أكن لأترك مجالًا لكلمةٍ سخيفة بأن تنسف رغبتي. يشفقن عليّ اللاتي حوّلن طريقهن, يدرين بأنني سأتأخر وسأعاني كثيرًا حتى أصل..
التجربة نحات مبدع يكسرنا بأحيان ويرممنا بأحيانٍ أخرى ويضيف لنا تفاصيل جميلة وملامح مميزة إلى أن نصل ما يفترض أن نكون عليه. فالتقينا نحن الذين عزمنا الكفاح في فصلٍ صغير نعيد التجربة بروحٍ جديدة.
لعلها الخطوة التي أخرتني قليلًا منحتني الفرصة بأن ألتحق بمدارس عديدة. أربعة مدارس, في كل مدرسةٍ أتعرف على عالمٍ جديد, ومشاكل جديدة, وصداقاتٍ لن يمحيها العمر من الذاكرة. كنت بعيدةً كفاية لأدرك أحجام الأشخاص الحقيقة دون أن يرفع أي منهن اسمها أو معدلها! ذاك الذي يسمونه سقوط, ويخافه الجميع. نفّر الكثير عني, وقد كنت محظوظة. لأنها خسارتهم أولًا لأنهم حكموا عليّ قبلما يعرفونني وأنا لا أتشرف بصحبة من يرى نفسه فوق البشر لأنه سبقهم في شيء. هؤلاء لا يستحقونني فكفاني الله إياهم بأن ابتعدوا عني بأنفسهم. أما بشأن أنني محظوظة فذلك لأنني لم أضطر للدخول بعلاقاتٍ تعتمد على المصلحة كما تورطت الأخريات. كان بعد الكذب عني, فرصةً للنقاء فكل من ارتبطت بهم أثروا حياتي بوجودهم. فتعلمت منهم ومعهم التحدي, والإصرار, والحب, والتعاون, والصدق, والشغف, والشغب, الإهتمام وربما عدم الإهتمام أيضًا.
---
هذا فشلي كما كنتهم تسمونه.. عيروني به فما كنت يومًا لأخجل منه.. وما كنت لأفخر بشيءٍ أكثر منه. سقوطي الذي صنعني, سقوطي لم يكن النهاية وإنما أجمل بداية لأنه جاءً دافعًا منبهً لي أن قمةً أعلى تنتظرني في مكانٍ آخر لهذا يجب أن أنهض ولا أخاف لأنه لا يوجد واقع جميل دون أحلامٍ جميلة.علمي لم يكن مجرد مسمى أردته في شهادتي وإنما إنجازٌ حققته بجهدي الذي استمر في الجامعة –التي هي قصةٌ أخرى أشد صعوبة وأكثر جمالًا- بتخصص علمي أيضًا فأين تلك التي تقول أنني لا أصلّح؟لو أن الأشياء لم تتفكك, لما تركّب هذا الواقع. لو أنني لم أسقط, ما كنا اجتمعنا معًا..أيها الأصدقاء, لقد سقطت فما أجمل السقوط معكم.. يرى العالم السقوط فشلًا فما كان لي إلا نجاحًا جميلًا.ممتنة للحلم في الصعود, ممتنة لكل شيء. شكرًا للأيام التي أشتاق جمعتنا بها.. شكرًا للذاكرة التي مثلما تحمل الخوف, تحمل الحب والحلم والحقيقة أيضًا!: )
5 comments:
صحوت الان الساعه تقارب ال7 صباحًا .. كان ال"حلم" طويلًا .. أشعر بطفح النوم ولو انّي غطست للنوم الساعه الثانية ..
اكتشفت شيء للتو .. انّي لا اقرء الا للأحرف العظيمه .. عين تغطّيها " المخدّه" والأخرى تستمتع بكلماتك العظيمه ..
انّك اجمل فاشله .. في ذلك العمر لا يوجد فشل. تلك هي مراحل التعلّم للفشل .. فالفشل هو عدم ادراك ما يعنيه ذاك المنبّه ..
دمتي عزيزتي ..
سأغلق عيني الاخرى
اراك قريبًا
امتناننا اكبر لوجودك هنا
لتلك الفضفضة الجميلة والصادقة
لقلب كقلبك
كوني كما انت وكما تحبين
:**
ياااااه ما اصدق ذلك الحرف
سيما يا راقية القلب و الروح
الفاشل من لا يقرأ حرفك
كنت هنا اسمع دقات قلبك و كل نبره
فعلمت ان الساقط
من لا يتعلم من اي خطأ
ما اجمل الحقيقه حينما تصاغ
بنا نحن ..بانفسنا دون الغير
فنحن نتقبل حقيقتنا بنا
لا بغيرنا .. و ها انت نجمه سطعت
لتنير درب النور و غير النور
شكرا لانك سيما
:*
ـ" التجربة نحات مبدع يكسرنا بأحيان ويرممنا بأحيانٍ أخرى" ـ
فعلاً أسماء، رحلة جميلة، عَلَتْ بنا في "السقوط" لـ نحدق بها أسفلنا .. ولا تبدو كذلك من هناك إطلاقًا ..
قال لي معيد في الجامعة :
ماكو شي ما تتعلم منه، و اللي يردك لي ورا "سبرنق" .. متى ما دست عليه يطمرك جدام ..
و هـ "الحلم" كان تفصيلاً جميلاً لـ حالة "السقوط إلى الأعلى" .. أحسنتِ أسماء : ) ..
حلمٌ جميل، ليس بـ وسع الجميع إدراكه ..
ماشاء الله عليج سيما
التحدي وخلق النجاح من الفشل أجمل انواع الكفاح
ما أقدر اخفي حبي لسماع وقراءة كفاح أشخاص استطاعوا تكوين نفسهم
يمكن كنت عكسك بعض الشيء
بدأت حياتي كشخص ذكي الكل يتوقع ان يكون دكتور او طبيب أسنان رغم الظروف العائلية والاقتصادية
كل هذا تغير في رابعة ثانوي
فشل ذريع في النتيجة أدي الى انعزالي عن العالم لمدة شهرين
دخلت الجامعة لا طالب طب ولا هندسة
وطلعت مهندس بعد قصص درامية
هذا يمكن أقل شيء ممكن أقدمه للوالدين اللي قرروا يصيرون مديونين عشان يشترون لي سيارة اروح فيها الجامعة وغيره من التضحيات
أعتقد أحتاج تدوينة لهالموضوع
:)
نعم التعليم هنا سيء. اللهم أول اربع او خمس سنين بعد الغزو وبعدها من أسوء الى اسوء
يعجبني جدا أصرارك
ورفضك للانهزام من كلام الغير
Cheers
Post a Comment