2013-07-16

سفرٌ دون حقائب



وأنا ألملم أمتعتك, أتأكد من كل غرضٍ رميته أنت بفوضوية داخل الحقيبة, أرتب لك كل شيء, أفكر عنك بكل ما تحتاج وكل ما سأفتقد.. يطري عليّ حين كنت صغيرة كلما ودعني أبي لأسفاره بكيت. وأحيانًا كثيرة منها كنت أفتعل البكاء وأنا أقول بسري: "ما ضرني لو بكيت؟ لعلني أفلح بإقناعه فيأخذني معه. لن أخسر غير بضع دموعٍ لوحاولت." فأضطر لكي أتقمص الدور تمامًا أن أجلس على ركبتيّ عند رجله وأتوّسل.

: أرجوك خذني معك!
..: لا يجوز.. ليس في الطائرة مقعد لك.
:  لكني صغيرة, تكفيني أي مساحة. أقبل أن أندعس بين كرسيين أو تحت رجلك.
..: لن يسمحون لك. لابد من إذنٍ يخوّلك الدخول.
: أنا أريدك, وبأي حقٍ لا يسمحون لابنة أن تكون مع أبيها؟ حسنًا, ماذا لو لم نخبرهم؟ خبئني ببالطوك الطويل.
..: حبيبتي, ثمة تفتيش. لن يدعوكِ تمرين.
(ولكي أقنعه, أفتح الحقيبة وأتمدد داخلها)
: أنظر, أرجوك أنظر. هذه الحقيبة تكفيني. أساسًا السفر داخل الحقائب أمتع من الجلوس لساعاتٍ طويلة على الكراسي.

فيقول لي بعد ضحكه
...: ستتضايقين.
: لن أشتكي.
...: لقد تأخرت, هل تريدين شيءً؟
: أريد السفّر معك.
يطبع قبلةً على خذي ثم يقترب من أذني ليهمس
...: سأجلب لكِ أشياء أعرف أنكِ ستحبينها.
ومنذها, كان يهديني أبي من أسفاره.. حقائب سفر. 
كنت أبكي بعدها قليلًا وقبل أن أنسى رحيله أفكّر بالصناديق الحديدية التي اشترتها أمي ذات مرّة قبيل عودة خادمتنا لبلدها. كانت أحلامي لأيامٍ طويلة تتمحوّر حول تلك الصناديق. كنت أفكّر بتلفازٍ صغير وثلاجة صغيرة وفرشٍ مريح لأشغل نفسي بذاك الكيان الحديدي الجميل خشية أن يحاصرني الملل. ثم توسع خيالي أكثر, ففكرت بإضافة إضاءة داخلية ونوافذ مخفية للتهوية.. وهكذا تحوّل صندوق الحديد إلى عالمٍ صغير. ليكون ظرف بريد.. وأنا رسالة تتوق الوصول لوجهتها.

 أعود لحقيبتك، أغلقت سحابها ولم أعي أني بينما كنت أطوي ملابسك, كنت أطوي أفراحي معها. أغلقت السحاب على أغراضك وعلى قلبي من ضمنها. ستغيب عني.. أنت تسافر, وأنا أتغرّب. تمنيت بالمطار لو أعود طفلة تختبئ في قميصك, لو أنني بشهقةٍ أتقلّص -كما السيّدة ملعقة- لأتسلل إلى جيبك أو لتضعني محل في محفظتك الثمينة.

حين عدت للبيت أخرجت حقيبة فارغة, شرّعتها وبقيت مدّةً أتأمل ثم بعد أن أغلقت الباب أدخلت رجلي كسبّاحٍ مبتدئ داخل فراغ الحقيبة. لم أبكِ, كان لازال بالحقيبة متسع. يمكن لو أنني بكيت قليلًا.. لو أنني بدل أن أخبئ مشاعري, كنت اختبأت بكلي في حقيبتك. لكنك تسافر سفرًا دون حقائب. ما عاد يغريني صعود الطائرات بقدر ما تغريني الدهشة الصاعدة بإسمي على لسانك. أحب السفر لكن سفرٌ عن الآخر يختلف. وأنا تمنيت السفر فيك أكثر من أي بلدان العالم.

ولولا أنك لم تكرر على مسمعي: "أنا مسافرٌ للعمل.. وأنتِ تريدين السياحة." كنت لأقبل بأي وظيفةٍ تعيني إياها. كنت لأجلك, أنا البعيدة كل البعد عن الرياضة سأتعلم السباحة حتى حين أسافر بدمك, أسبح, لا أغرق ولا أعوم. كنت في فينيسيا عينيك أنوي الركوب في قاربٍ يأخذني برحلةٍ فاتنةٍ عند الغروب. كنت لأشاغبك فأواعد بنات أفكارك دون علمك, أسألهن عن حالك وأوصيهن كلما أثرت أعصابي أن يعبثن بمزاجك. كنت حين تطلب يدي, سأطالبك بنزهةٍ عند الريف. كان سيكون السفر ممتعًا لولا أن هنالك مقعدٌ واحد, والرحلة لا تتسع.

لذا فبصوتي, وبصوت الطيار نتمنى لك رحلة سعيدة!
-تمت-

2012 صيف
: )

2 comments:

Al Pacino said...

من شدة الابداع جعلتيني اتخيل كيف ستسبحي في عروقه ..
احسنت

Anonymous said...

ماشاء الله إبداع