2013-07-06

وانكشف سرنا



تعمدت أن ألتقط صورة بعيدة لاصبعي المجروح من خلف شاش كي لا تظهر التفاصيل فلا ينزعج أحد أو ينقلب مزاجه من المشهد. ذاك الفضول الذي يتحدانا لمعرفة كل شيء, يبهت متى ما يُكشّف ما لا نرغب حقًا بإكتشافة. ويحدث في أحيانٍ كثيرة, نتعرف, نتبادل الأرقام, ولا نتصل إلا بين فترةٍ وأخرى لا لقصر التكولوجيا ولا لقصر الوقت ولكن لقصر البال ولكي لا نكتشف كم المشاكل والملل. أحد أسباب نجاح علاقاتنا هو أننا نضع فيها مسافات متفاوتة حتى إذا إقتربنا يكون الوقت قد سمح لنا بتكوين ذاكرةٍ ما, تحقيق إنجازٍ يستحق الكلام, فنفرح بمشاركة تجاربنا بغض النظر إن كانت التجربة في سماع كلمة "ماما" كـ أول كلمةٍ تخرج من طفل, أو حتى ترقية بالعمل. 
قرأت ذات مرة مجموعة قصصية للكاتب عبدالرحمن منيف عنوانها "الباب المفتوح" وأثارتني مسألة الباب إذ كانت جدته بالقصة تترك الباب مفتوحًا لغيابه المكرر حتى إذا عاد, لا يستلزمه طرق باب بل الدخول فورًا لأنها تثق من عودته كل مرة. كان للباب المفتوح في تلك القصة رمزية واضحة, إشارة أمل, وعلامة إنتظار. الأبواب المفتوحة تقول لمن يقترب منها: أهلًا بك! وأنا أضع بيني وبين العالم ألف بابٍ لألا نقترب. كانت تجاربي دومًا تقول: "في البعد أحلى" حتى اقتنعت. في البعد حيث العبارات الواسعة, ولا خصوصية في الحديث ولا الموقف. في البعد, تكون صديقًا لكل الناس بطيبك, ولا تكون صديقًا لأحد. في البعد, يكون كل شيءٍ (تقريبًا) توقعات دون توكيد. 
ومن البعد أيضًا كان لأحد معارفي عادةٍ غريبة, إذ كلما رأت شخصًا يأكل, انكسر خاطرها عليه لأنه يبدو مسكينًا وخاصةً حين يأكل وحده صامتًا. وسرعان ما انتبهت إلى نفسي أن بت مثلها فما عدت أحبذ أن أٌرى وأنا آكل. ربما لأن في الأكل حاجة ولأن شراهة البعض في الأكل كانت تقول لي بأنهم يخوضون يومًا شاق, أشفق عليهم لأن تلك الحاجة تدل على نقص للمواد التغذوية في الجسم وعدم الكمال هذا لا يقتصر فقط على الطعام وإنما على الإحساس عمومًا. وبهذا, فلا أحد يعيش حياةً مثالية, لذلك فنحن نحاول ولا ننجح في كل مرة سد نواقصنا الكثيرة. لا أدري بماذا يفكر الآخرون لكني كلما إقتربت من حياة أحدٍ, ثبت لي ضعفها الإنساني. فلكلٍ جرحه, كلنا نشتكي مشاكلنا, كلنا نشتكي على الأقل عقدة. نغضب, ونبكي, ونضحك بأحيانٍ أخرى. المشكلة أني أراقب ذلك كله كما لو كن أطالع من منظارٍ بعيد, وأنسى أنني من هؤلاء الناس مسكينة مثلهم أأكل.. وأعيش وأحلم. 
حكت لي إحدى الصديقات عن خيبتها بعد زيارة أحد المتاحف لرؤية بعض الأعمال العالمية التي درسناها معًا, وفاجأنها أن بيكاسو كان يرسم على أوراقٍ صغيرة, وحتى الموناليزا ذات الصيت الواسع والاسم الكبير, ليست كبيرة حجمًا. خيبتها كانت واقعة بين ما نراه وما نتوقعه. ويحدث أن مهما حاولنا التوقف عن توقعاتنا, لا نستطيع كبتها. لأن للمفاجأة وجوه عدة. ولعل الإعجاب بلوحة من بعيد كان جميلًا وحال اقتربت اتضحت الفراغات اللونية بلوحةٍ لن تكتمل أبدًا, والوجه المثالي حين جئت ألتقط له صورةً تراءت لي علاماتٍ كانت غائبة عن عيني وحاضرة لعدسة الكامرة ومن هنا جاءت الحاجة لفلاتر التنقية, أو للإبتعاد كي لا تلتقط العين تفاصيل التعب. نحن نريد إخفاء كل مشاعرنا الصادقة لأنها طريقتنا في حمايتها ولهذا تكثر الأسرار وكلما باح لي شخصٌ بسرٍ, قربني من صورة روحه. والصورة ليست مثالية على الإطلاق لكن في كل قرب فرصة للتعرّف. التفاصيل هي التي تصنع الأشياء, لذلك يبدو الشبه كبيرًا بين ما لا نعرفه كوجوه الصينيين مثلًا إذ يخيّل لنا أنهم شخص واحد مكرر, ذلك لأننا نجهل تفاصيلهم. ويكون خيرًا في كثيرٍ من الأحيان أن لا نقترب لأن في القرب خطر. قرأت ذات مرة إقتباسًا لكاتبٍ مجهول يقول: "إنها كغابة, حين تشهد أراضيها إشتعالًا فإنها تبدو جميلةً فقط من بعيد." وربما أنا كذلك, غابةُ تحترق لوحدها. لا أريد أن أكون خيبة أحد, لا أريد لأحدٍ أن يحترق في غاباتي ولا كتاباتي لذلك أوصد كل باب لأني كما أسمع صوت محمود درويش برأسي يوّصي: "فكّر بغيرك" أخاف على الآخر بقدر ما أخاف على نفسي..  وأكثر. 
التفاصيل قد تتعبنا كثيرًا خاصةً إذا ما تدخلنا بها وحاولنا دون نفعٍ إصلاحها. قال لي أحدهم ذات مرة: "الفراشة جميلة ولكن وقت ما تأملتها اكتشف أنها مجرد حشرة" وأنا فراشة يسيئها أن لا ترى يا صديق غير فصيلتها. فلم تنتبه إلى ما أنجز, ولا ما أعيش, وإنما إنتبهت على تفصيلٍ واحد وهو نظرتك البعيدة لأصلي. فليكن السر فراشة ولتشتعل تلك الحشرة في غابةٍ ثم تنام رمادًا على ترابٍ هو أصلك.

.. يتبع

3 comments:

Al Pacino said...

وانا اتبع

Seema* said...

Al Pacino
سعيدة بهذه المتابعة.
شكرًا لك.

علي موسى said...

سلم عليكم..
انكشف سرنا..!
الغريب بان السر هو جزء من حياة صاحبه ، بل قد يكون هو سر يسعى دائماً لإخفاء ذاته عن الاخرين مخافة نعته بالضعف والنقص ، وما القوة والكمال إلا لله.
إلا ان الامر لا يعدو كونه تفرد باللذة والالم مخافة إفساد الاخرين هذا السكون المفعم بالحياة، يظل صاحبه محافظاً عليه لانه جزء منه يصعب التنازل عنه بكشفه.
حتى يأذن الله بتأمل اخر كونوا للسر حافظين