2013-10-14

دراسة في لوحة

 
أنا الآن وحدي أقف أمام الصورة, وليس متوفرًا لي عنها سوى سطرٍ واحدٍ مكتوبٌ به اسم الفنان, تاريخ ولادته ووفاته, مع عنوان اللوحة. كل شيء آخر يرجع لتحليلي له. فكيف أقرأ الرسم وأرسم ما أقرأ أو أغنيه؟ كيف أستقبل تجربة الفن أو فن التجربة وأتعامل معه؟ 

أمر عند لوحة للفرنسي نيكولا بوسان وليس ثمة أحدٌ يقف بجانب اللوحة ليشرح لي عملًا بعمر مئات السنين. أتأمل المشهد, إنه حالة من الفوضى, والناس بأياديهم المرفوعة للسماء يدعون ويصلون لكي يمّن الرب عليهم بمعجزةٍ تنقذهم. بينما فقد البعض إيمانهم بعد طول إنتظار إذ بدى الفقر والحرب أشد من الله كما ظنوا. أين قرأت الفقر باللوحة؟ بالأكواب الفارغة, بالأكياس المفتوحة, بالملابس الممزقة, والوجوه المتسخة. هؤلاء الذين يسكنون اللوحة, هم على أملٍ وإنتظار.
 
ماذا يريد الفنان أن يخبرني من كل ذلك؟ إنه على خلاف من جاؤوا بزمانه, فإن فنه ليس دعويًا بحت. أجد إهتمامًا واضحًا عنده للتعبير, بالرغبة في إظهار ردود الأفعال المفاجأة حول الإيمان والفرح.
يمكنني تحديد نقاط إنتقال موزون بين عناصر اللوحة وهو إستراتيجية اتبعها الفنان ليساعد المشاهد بالإنتقال. وقد وظّف الشكل مع اللون ليساعدانه في ذلك. كل لوحة تقول قصّة بإختلافٍ وإنفراد. فكيف أقول قصتي في لحظة؟ لحظة إلتقاء العين؟ لحظة الحدث. كيف لألف كلمة أن توجد في لوحة دون أن نضع إطار أو نصغّر الخط؟ كيف يلائم الكل بعضه؟ هل أحتاج أن أدخل عقل الفنان لأفهمه؟ لابد, ولكن كيف؟
 
درس في التاريخ: في القرون الوسطى, أو ما يسمى بالعصر المظلم كانت القوة للرب, ثم للكنيسة, ومن بعدها تكون للحكام. وكانت الكنيسة حينها تمارس سلطتها كما تشاء ولو بغير عدل. فتقلل من شأن المرأة وتفاضل بينها وبين الرجل, تضع مقامًا للشخص بناءً على لونه ومكانته الإجتماعية التي يكتسبها من المادة, كانت تصل للتعنيف ضد المفكرين والظلم لمجرد إختلاف حول معتقد. فما تدعو له الكنيسة, مهما بدى متناقضًا, لا يحق لأحدٍ الإعتراض عليه أو التشكيك به. عليك أن تؤدي ما يطلب منك, وأي محاولة تفكير هي مشروع كفر يجب أن تتراجع عنه وإلا ستضطر الكنيسة أو من يمثلها بإجبارك للتراجع لأنك سفيه, ولأنهم أعلم بمصلحتك. ومن هناك, جاءت الحاجة للتعبير بإستخدام الرمزية كوسيلة للتواصل والمحافظة على المعرفة.
 
هنا, لا توجد الكثير من الكنائس. وحتى الكنائس فلقد تطوّرت وليست كسابق عهدها بل باتت تشجع الفن والتفكير. لكن هنالك مجتمع قمعي يمارس ما كانت تمارسه الكنيسة في القرون الوسطى بل وعلى مستوى أردى وأسوأ. فهل يضطر الفنان أو المفكّر في يومنا هذا أن يختبئ وراء لوحة كي لا تنزعج الكنيسة أو يثور عليه المجتمع؟ كيف نعيش في أمان المجتمع لا بخوفنا منه؟
 
أنتقل للوحة أخرى, اسمها: Et In Arcadia
والترجمة الحرفية للعنوان هو: (إني موجود حتى في أركاديا) من ذا يتحدث؟ إنه الموت. مشهد هذه اللوحة مصوّر في أركاديا. وأركاديا هي منطقة جبلية في اليونان حيث كان رعاة الأغنام يعيشون حول الشمس حياةً طويلة. أركاديا تمثل الطهارة, السلام, والحياة المثالية السعيدة بعيدًا عن التمدن وإزعاجه. تأتي أهميّة هذه اللوحة لكونها أول تعبير مرئي للفكرة وليس للتعبير الحرفي لها. إنها المحاولة الرمزية التي تصوّرها. كمحاولة وصفٍ سأقول أن المشهد يتشاركه ثلاثة رجال وامرأة مجتمعين حول تابوت حجري محفورة عليه عبارة يشير إليها أحدهم باصبعه. وجود الرعاة هم نقطة التركيز في اللوحة, والمرأة تمثل الحق والرعاة. أو كما يعتبرها الكاثوليك, فإنها مريم العذراء.
  
قد سبق هذا العمل عملٌ آخر ثم تطوّر حتى آل لما هو عليه. فالقبر صار متوسطًا وما حوله شبه متناظرين. أما سابقه, فكان يظهر جمجمة لترمز إلى الموت وهذا تمثيل حرفي له. الموت ليس بالعظام. بعض الموتى يمشون حولنا, بعض الموتى لا يددرون أنهم ميتين إذ لم يصلهم بعد خبر وفاتهم. ثمة من لم يحيا حتى يموت. خشيت مرّة وأنا أحدث الموتى أن أخبرهم أنهم موتى, فيموتون من الصدمة!
 
على كل حال, اللوحتان تظهران إختلافًا في طريقة التلوين وتوزيع الظلال والنور بالإضافة للتركيب الهندسي المبسط التي توصل له في لوحته الأخيرة يشهد على نضج فكري بين المرحلتين. وجود المرأة وهي ممسكة بلباسها يظهر حركة وتفاعل مع المشهد على خلاف اللوحة السابقة حيث كانت تجلس بصمت.
 
لماذا تطري عليّ هذه اللوحة؟ والآن؟
لأنني شهدت على موت أحدهم. والصدمة ليست بأن شيءً مستحيلًا تم, لكن لأنه لم يكن متوقعًا. لأنني دخلت اللوحة, أنا هي تلك المرأة الواقفة بين الرجال تقرأ السطر المكتوب على القبر بكل رعبٍ, مفاجأة, وعدم تصديق.
الموت يمر من هنا, ولا أدري كيف مر ولم يره أحد لكنه ترك الأثر. هذه اللوحة تقول أنه حتى هناك أو هنا.. مهما بدت الحياة مثالية فثمة ما يمكن أن يفسدها. بل أن ليس هناك حياة مثالية. كل شيء يوجد مع ضده. وإن كنا وصلنا معًا إلى قمة السعادة, فقد نصل لقمة البؤس. ولا هذا ولا ذاك يدوم.
ولأن بعض الذين سبقونا عمرًا سبقونا بتجاربهم.. تدعو الجدات متى ما ضحكنا بصوتٍ عالٍ: "الله يكفينا شر الضحك!" وهل الضحك شر؟ إنهم لا يفكرون بالضحك على إنفراد, إنهم ينظرون إلى الإزدواجية التي تأتي بها الأشياء. ولذلك يرفضون المطلق من أي شيء, لأنه طريق الضد.
ولن أقول أين وصلت الآن.. لكن إيماني كبير, ولازلت أصلي لمعجزة.
:)
 

No comments: